عندك وقت تحب مصر ؟
كم دقيقة تحب مصر فى اليوم؟
فى الأحوال الطبيعية، إذا أخذت السؤال جد، وقررت الإجابة بمنطق، سوف تطوى الصحيفة والصفحة والمقال وتنتظر بعض الوقت فتمر صور معتادة يومية مكررة أمامك منها: عناوين الصحف المرتبكة كل صباح، تصريحات الحكومة المستهلكة على مدار الساعة، المرور فى الشوارع مهما كان الوقت، المرتب الذى يسخر من قدراتك العقلية نهاية الشهر، الأسعار غير المتوقعة للطعام من يوم لآخر، القمامة التى أصبحت عنوانا لشوارع العاصمة ليل نهار، المدارس التى تسرق ذكاء تلاميذها من أول يوم دراسة وتمنحهم شهادات فى الجهل آخرها.
وأضف كلمات موحية مختصرة معتمداً على خيالك وذكاءك مثل: الحزب الوطنى، وزير التضامن الاجتماعى، كوبرى أكتوبر، التيفود، الخضروات الملوثة بمياه المجارى، جامعة النيل، حزب الوفد، مسلسلات رمضان، برامج التوك شو، شيخ الأزهر، .. وهكذا!.
وسوف أخمن الإجابة مقدماً!.
الحقيقة: من 36 سنة، لم نعد نحب مصر كما هو واجب أو كما نظن أو كما نتمنى إلا 90 دقيقة من وقت إلى وقت.. حسب جدول مباريات فريقنا القومى فى كرة القدم!.
تزيد أو تبقى كما هى حسب دقائق إضافية مهدرة.. أو ضربات ترجيحية محتملة.
90 دقيقة تصفو فيها القلوب كما يجب أن تكون فى الحب، يتصاعد القلق على اسم مصر، يصبح الدعاء إلى الله نقياً رقيقاً دقيقاً كما صلاة الفجر فى شهر رمضان، نصاب بهلوسة السعادة بهدف وبأزمة قلبية بهزيمة، نستعد بهمة ونذهب بموعد ونشجع بنظام ونتكلم بحماس وننفق بسخاء وننتظر بحساب، 90 دقيقة نتحول فيها من فئة الشعوب المتأخرة.. إلى قائمة الدول المتقدمة، من الكراهية المفرطة لأشياء كثيرة فى حياتنا إلى حب زائد لكل ما حولنا، من أعصاب مشتعلة غضبا إلى مشاعر غارقة فى الرومانسية، نرتفع - فى هذه الدقائق المحسوبة على ساعة حكم المباراة - من اللامبالاة المعتادة.. إلى الحساسية المنعشة، من الغيبوبة المقصودة إلى الحياة المطلوبة، من الكسل الدائم إلى النشاط المؤقت، من السخط الغبى إلى المناقشات الذكية.
فى زمن المباريات المصيرية المصرية.. نعود من الموت الإكلينيكى إلى قمة الحيوية.. نتمنى أن يكون هذا هو حالنا فى كل أحوالنا، أتخيل لو كان ممكناً من هذه الدقائق الحصول على دواء يطيل عمر حبنا لهذا الوطن الجميل المهدر تحت عبء المصالح الخاصة لمجموعة خاصة من المواطنين والقرارات الغبية التى نعود بها إلى أول السطر كلما كنا على وشك أن نكتب جملة مفيدة، دواء يجعلنا كما مباريات كرة القدم نقف على أطراف أصابعنا قلقاً على انتصارنا وكرامتنا واسمنا!.
فى مباراة الكرة.. يصبح رئيس الجمهورية مواطنا، والمواطن رئيس جمهورية، تتبدل الأدوار فى سهولة مدهشة غير متاحة فى الواقع بدون دوائر انتخابية وآمال مفقودة، يصبح الهدف واضحا ومحددا.. رسميا وشعبيا، فوق وتحت، نفسها البهجة والفرحة بالفوز.
يتحول المواطن إلى وزير داخلية ديمقراطى متحضر.. يساند الفرحة ويحافظ على النظام، لا يرغب فى تزوير مشاعر أو قمع سعادة، فى الـ 90 دقيقة لا تحتاج مصر إلى صحافة تكشف الفساد.. فالفساد فى إجازة لمشاهدة مباراة كرة القدم، لا نحتاج إلى وزير إعلام يمرر على مشاهديه قرارات الحكومة الذكية ببرامج مسلية ساذجة فى أحيان كثيرة.. فالحكومة فى المقصورة تدعو الله فى سرها بالفوز من أجل أن ينسى المواطن فرص الدعاء عليها.
مر 36 سنة على انتصارنا الكريم فى حرب أكتوبر، تلك أيام لم تعد معنا، أيام كان الحب وطنا، وكان الحب للوطن.. من القلب، كان الحب 24 ساعة فى اليوم وليس 90 دقيقة كلما تيسر من مباراة لمباراة، كانت المشاعر خليطا متقنا من الخوف على بلدنا والأمل له، قبل 36 سنة كان مغادرى الوطن يغامرون للعودة إليه.. بعد 36 سنة مواطنو الوطن يموتون من أجل مغادرته!.
من 36 سنة، كانت الهزيمة أمامنا واضحة، والعدو محددا والهدف واحدا، اليوم: الهزائم متعددة والعدو أقرب الناس لك والهدف هو مصلحة كل فرد فقط وحصرياً وليذهب الجميع إلى الجحيم.
يصعب جداً على أى كاتب أن يشعل شمعة فى العتمة اليوم، وأن يجعل حروفه قطرات أمل، ويحول قلمه إلى عصا ساحرة سحرية تجعل القلوب على حب، لكن.. لماذا لا أفعلها؟.
لماذا لا أقول: ربما كان من القراء شاعر فيكتبها قصيدة تنشر، رسام فيجعلها لوحة مؤثرة توجع القلب، أب فيعلم أطفاله كيف يحبون مصر فنملك عائلة، مدرس فيجعلها درس الحصة الأولى فنتعلم، رئيس الحكومة فيجتمع بوزراء حكومته ويعلن أنه يحب هذا الوطن أكثر من نفسه.. فيستقيل!.
بعد 36 سنة أذكر نفسى أن الحب ليس فى حاجة إلى معركة.. لنستعيده، حبنا لمصر ليس فى حاجة إلى قرار أو دعاء أو مباراة كرة قدم، حبنا لها فى حاجة إلى تغيير كل شىء..!.
القلوب التى لا تتصور أن فى قلبها قدرة على الحب.. هى أكثر القلوب قدرة على الحب.
لم نمت من الصمت بعد.
نحن فى حاجة إلى أن يصبح الحب فيروسا.. نصاب به، ونستريح.. أدرك أننا فى مساحة الصعب.. لكننا لسنا فى زمن المستحيل، كل شىء ممكن.. أن ندرك أهمية الحب - أن نتحرك نحو الحب - أن نحب - أن نتغير بالحب - أن نغير كل ما حولنا بالحب.. لهذا الوطن الطيب.
تصور: لو أحببنا هذا الوطن ساعة فى اليوم؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق