البقية فى حياتها .
العزاء الليلة بمسجد رابعة العدوية، رحلت نور.. هكذا، فجأة اختفت عن الحياة وظهرت صورة فى الصفحة قبل الأخيرة من جريدة الأهرام، صورة لها ملامح الملائكة، تبتسم.. نور، لابد أن أعرفكم بها أولا، هى الابنة الوحيدة لمسؤول كبير مازال يحتل مركزاً مهما، على الرغم من نبوءات كثيرة بعزله أو اعتزاله بحكم العمر، يتحدى كل التوقعات ويبقى، يتردد أنه فى السنوات الأخيرة قطع علاقته بابنته قبل أن يعود فيلتقى بها من جديد، ونور أيضا هى زوجة رجل أعمال معروف واسع الثراء يعمل فى تجارة الأدوية!
فى العزاء تقدم الأب بوابة دار العزاء بوجه ثابت لايهتز فى رحيل ابنته التى لم تحتفل بعد بعامها الأربعين، بينما كان الزوج يدخن بشراهة ويتبادل أحاديث مع معزين، كان العزاء مزدحماً بوجوه لم أعرف منها الكثير، وجوه بسيطة طيبة خائفة لكنها حزينة، لايكاد مقرئ العزاء ينتهى من جزء من القرآن حتى يرحل بشر ويأتى بشر أما قصة نور.. فهى أصل ما أكتبه عنها الآن..
فى يوم من الأيام كانت نور تعيش حياة تشبه السعادة مع زوجها، تتنقل بين قصور وتسافر على طائرة خاصة ودولاب ملابسها يشبه محلا كبيرا للملابس، كل طلباتها تتحقق بإشارة، كل أوامرها تنفذ، لم يكن لديها وقت للأحلام، فهى كما كانت تفتخر أمام صديقاتها: تملك ماتتمنى قبل أن تفكر فيه!
كيف تتخيلون حياة امرأة مثل نور؟
لقد تزوجت عن قصة حب أسطورية، كانت سعيدة لأمر آخر غير الحب الذى تعددت مواعيده فى كثير من المدن، وتعلم الحروف بأكثر من لغة.. كانت سعيدة بالحب نفسه، بحبيبها المنتظر الذى أصبح زوجاً.
وفى يوم، هكذا الأيام تتخفى وتخفى مفاجآتها، طلبت منها صديقة مقربة أن تتبرع لطفلة فى حالة خطرة وتحتاج إلى جراحة عاجلة، كانت المرة الأولى التى يطلب منها طلب كهذا، تحولت دهشتها إلى صمت.. ثم خوف.. ثم ضحك.. ثم رغبة فى البكاء، طلبت من زوجها مائة ألف جنيه، لأول مرة تكتشف أنها لاتملك المال.. كل ماكانت ترغب فى شرائه يأتى دون أن تفكر فى طريقة دفعه، حصلت على المبلغ وقررت أن تذهب بنفسها إلى حيث تنام الطفلة فى غرفة العناية الفائقة فى انتظار الأمل، كان هذا اليوم فصل النهاية والبداية فى حياة نور، لقد شعرت رغم كآبة الحزن بسعادة كالنهر المتدفق، غاصت فى الفرجة على مآسى الناس فأيقنت أنها خلقت للبحث عنها، أصبحت أيامها منذ هذا اليوم.. محاولة اكتشاف جراح العاجزين ودموع الفقراء. هكذا عاشت نور سنواتها الأخيرة.. سيدة القصور زهدتها، سيدة الثراء وجدت أن ثراءها فقر وسلطتها ضعف، حاولت أن تقنع زوجها أن يتبرع بماله من أجل الفقراء الذين لايعرفهم، أجتهدت فى إقناعه أنه لاطعم لملعقة طعام وهناك من يموت من الجوع، لما فشلت..
حاولت أن تعلم أطفالها الاستغناء عن قطعة الشيكولاتة من أجل طفل محتاج، والتبرع بثمن عروس بلاستيك لطفلة يتيمة، ولما فشلت.. بحثت عن الأصدقاء والجيران والمعارف تقنعهم.. تهربوا منها، قالوا عنها مجنونة، وتفاوض الزوج مع الأب فى ضرورة أن تسافر للخارج فى رحلة علاج طويلة فى مستشفى للأمراض العقلية فى إنجلترا.. وسافرت. ولما عادت.. عادت نعيا فى الأهرام، وعزاء فى رابعة العدوية. بينما تنتشر شائعات تشبه الحقيقة أنها مازالت على قيد الحياة هناك، وموتها كان صفقة مدبرة من أجل إسدال الستار على قصة قصيرة لامرأة جميلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق